فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (125- 126):

قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)}

.مناسبة الآيتين لما قبلهما:

قال البقاعي:
ولما كان حالًا يشوق النفوس إلى جوابهم، استأنفه بقوله: {قالوا} أي أجمعون، لم يرتع منهم إنسان ولا تزلزل عما منحه الله به من رتبة الإيمان {إنا إلى ربنا} أي الذي ما زال يحسن إلينا بنعمه الظاهرة والباطنة حتى جعل آخر ذلك أعظم النعم، لا إلى غيره {منقلبون} أي بالموت انقلابًا ثابتًا لا انفكاك لنا عنه إن صلبتنا أو تركتنا، لا طمع لنا في البقاء في الدنيا، فنحن لا نبالي- بعد علمنا بأنا على حالة السعداء- بالموت على أيّ حالة كان، أو المراد أنا ننقلب إذا قتلتنا إلى من يحسن إلينا بما منه الانتقام منك، ولذلك اتبعوه بقولهم: {وما تنقم} أي تنكر {منا} أي فعلك ذلك بنا وتعيب علينا {إلا أن آمنا} أي إلا ما هو أصل المفاخر كلها وهو الإيمان {بآيات ربنا} أي التي عظمت بكونها صادرة عنه ولم يزل محسنًا إلينا فوجب علينا شكره {لما} أي حين {جاءتنا} لم نتأخر عن معرفة الصدق المصدَّق، وهذا يوجب الإكرام لا الانتقام؛ ثم آذنوه بأنهم مقدمون على كل ما عساه أن يفعل به فقالوا: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا القادر على خلاصنا {أفرغ} أي صب صبًا غامرًا {علينا} أي فيما تهددنا به هذا الذي قويته علينا {صبرًا} أي كثيرًا تغمرنا به كما يغمر الماء من يفرغ عليه حتى لا يروعنا ما يخوفنا به {وتوفنا} أي اقبض أرواحنا وافية حال كوننا {مسلمين} أي عريقين في الانقياد بالظاهر والباطن بدلائل الحق، والظاهر أن الله تعالى أجابهم فيما سألوه تلويحًا بذكر الرب فلم يقدره عليهم لقوله تعالى: {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} [القصص: 35] ولم يات في خبر يعتمد أنه قتلهم، وسيأتي في آخر الحديد، عن تاريخ ابن عبد الحكم ما هو صريح في خلاصهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم حكى تعالى عن القوم ما لا يجوز أن يقع من المؤمن عند هذا الوعيد أحسن منه، وهو قولهم لفرعون: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بئايات رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا} فبينوا أن الذي كان منهم لا يوجب الوعيد ولا إنزال النقمة بهم، بل يقتضي خلاف ذلك، وهو أن يتأسى بهم في الإقرار بالحق والاحتراز عن الباطل عند ظهور الحجة والدليل.
يقال: نقمت أنقم إذا بالغت في كراهية الشيء، وقد مر عند قوله: {قُلْ يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا} [المائدة: 59] قال ابن عباس: يريد ما أتينا بذنب تعذبنا عليه إلا أن آمنا بآيات ربنا.
والمراد: ما أتى به موسى عليه السلام من المعجزات القاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى.
ثم قالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} معنى الإفراغ في اللغة الصب.
يقال: درهم مفرغ إذا كان مصبوبًا في قالبه وليس بمضروب، وأصله من إفراغ الإناء وهو صب ما فيه حتى يخلو الإناء وهو من الفراغ، فاستعمل في الصبر على التشبيه بحال إفراغ الإناء.
قال مجاهد: المعنى صب علينا الصبر عند الصلب والقطع، وفي الآية فوائد:
الفائدة الأولى: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أكمل من قوله: أنزل علينا صبرًا، لأنا ذكرنا أن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية، فكأنهم طلبوا من الله كل الصبر لا بعضه.
والفائدة الثانية: أن قوله: {صَبْرًا} مذكور بصيغة التنكير، وذلك يدل على الكمال والتمام، أي صبرًا كاملًا تامًا كقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة} [البقرة: 96] أي على حياة كاملة تامة.
والفائدة الثالثة: إن ذلك الصبر من قبلهم ومن أعمالهم، ثم إنهم طلبوه من الله تعالى، وذلك يدل على أن فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله وقضائه.
قال القاضي: إنما سألوه تعالى الألطاف التي تدعوهم إلى الثبات والصبر، وذلك معلوم في الأدعية.
والجواب: هذا عدول عن الظاهر، ثم الدليل يأباه، وذلك لأن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعية الجازمة وحصولها ليس إلا من قبل الله عز وجل، فيكون الكل من الله تعالى.
وأما قوله: {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} فمعناه توفنا على الدين الحق الذي جاء به موسى عليه السلام وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
احتج أصحابنا على أن الإيمان والإسلام لا يحصل إلا بخلق الله تعالى، ووجه الاستدلال به ظاهر.
والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف والكلام عليه معلوم مما سبق.
المسألة الثانية:
احتج القاضي بهذه الآية على أن الإيمان والإسلام واحد.
فقال إنهم قالوا أولًا {ءَامَنَّا بآيات رَبِّنَا} ثم قالوا ثانيًا: {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} فوجب أن يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان، وذلك يدل على أن أحدهما هو الآخر. والله أعلم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{قَالُواْ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} أي: لا نبالي من عقوبتك وفعلك فإن مرجعنا إلى الله تعالى يوم القيامة.
قال تعالى: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا} يعني: وما تعيب علينا، وما تنكر منا إلا إيماننا بالله تعالى.
ويقال: وما نقمتك علينا ولم يكن منا ذنب {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا لَمَّا جَاءتْنَا} يعني: لما ظهر عندنا أنه حق.
ثم سألوا الله تعالى الصبر على ما يصيبهم لكي لا يرجعوا عن دينهم فقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} يعني: أنزل علينا صبرًا عند القطع والصلب، ومعناه: ارزقنا الصبر وثبت قلوبنا حتى لا نرجع كفارًا {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} على دين موسى.
وروي عن عبيد الله بن عمير أنه قال: كانت السحرة أول النهار كفارًا فجرة، وآخر النهار شهداء بررة.
وقال بعض الحكماء: إن سحرة فرعون كانوا كفروا خمسين سنة فغفر لهم بإقرار واحد وبسجدة فكيف بالذي أقر وسجد خمسين سنة كيف لا يرجو رحمته ومغفرته؟. اهـ.

.قال ابن عطية:

{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}.
هذا تسليم من مؤمني السحرة، واتكال على الله، وثقة بما عنده.
وقرأ جمهور الناس {تنقِم} بكسر القاف، وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم وابن أبي عبلة والحسن بن أبي الحسن {تنقَم} بفتحها وهم لغتان، قال أبو حاتم: الوحه في القراءة كسر القاف، وكل العلماء أنشد بيت ابن الرقيات:
ما نقَموا من بني أمية

بفتح القاف ومعناه وما تعد علينا وتؤاخذنا به؟ وقولهم: {أفرغ علينا صبرًا} معناه عمنا كما يعم الماء من أفرغ عليه، وهي هنا مستعارة، وقال ابن عباس: لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل، وحكىلنقاش عن مقاتل أنه قال: مكث موسى بمصر بعد إيمان السحرة عامًا أو نحوه يريهم الآيات. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قالوا إنا إلى ربّنا منقلبون}.
هذا تسليم واتّكال على الله تعالى وثقه بما عنده والمعنى أنا نرجع إلى ثواب ربنا يوم الجزاء على ما نلقاه من الشدائد أو أنا ننقلب إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائك أو أنا ميتون منقلبون إلى الله فلا نبالي بالموت إذ لا تقدر أن تفعل بنا إلا ما لابد لنا منه فالانقلاب الأول يكون المراد به يوم الجزاء وهذان الانقلابان المراد بهما في الدنيا ويبعد أن يراد بقوله: {وأنّا} ضمير أنفسهم وفرعون أي ننقلب إلى الله جميعًا فيحكم بيننا لقوله: {وما تنقم منا} فإنّ هذا الضمير يخصُّ مؤمني السحرة والأولى اتحاد الضمائر والذي أجاز هذا الوجه هو الزمخشري: وفي قولهم: {إلى ربنا} تبرؤ من فرعون ومن ربوبيته وفي الشعراء لا ضير لأن هذه السورة اختصرت فيها القصة واتسعت في الشعراء ذكر فيها أحوال فرعون من أوّلها إلى آخرها فبدأ بقوله: {ألم نربّك فِينَا وليدًا} وختم بقوله: {ثم أغرقنا الآخرين} فوقع فيها زوائد لم تقع في هذه السورة ولا في طه قاله الكرماني.
{وما تنقم منا إلا أن آمنا بِآيات ربنا لما جاءتنا} قال الضحاك: وما تطعن علينا، وقال غيره: وما تكره منا، وقال الزمخشري: وما تعيب منا، وقال ابن عطية: وما تعد علينا ذنبًا وتؤاخذنا به وعلى هذه التأويلات يكون قوله: {إلا أن آمنا} في موضع المفعول ويكون من الاستثناء المفرّغ من المفعول وجاء هذا التركيب في القرآن كقوله: {قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا} {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا} وهذا الفعل في لسان العرب يتعدّى بعلى تقول نقمت على الرجل أنقم إذا غلب عليه والذي يظهر من تعديته بمن أنّ المعنى وما تنقم منا أي ما تنال منا كقوله فينتقم الله منه أي يناله بمكروه ويكون فعل وافتعل فيه بمعنى واحد كقدر واقتدر وعلى هذا يكون قوله: {إلا أن آمنا} مفعولًا من أجله واستثناء مفرّغًا أي ما تنال منا وتعذّبنا لشيء من الأشياء إلا لأن آمنا بآيات ربنا وعلى هذا المعنى يدل تفسير عطاء، قال عطاء: أي ما لنا عندك ذنب تعذّبنا عليه إلا أنّا آمنا، والآيات المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام ومن جعل لما ظرفًا جعل العامل فيها {أنّ آمنا} ومن جعلها حرفًا جعل جوابها محذوفًا لدلالة ما قبله عليه أي لما جاءتنا آمنا وفي كلامهم هذا تكذيب لفرعون في ادعائه الرّبوبية وانسلاخ منهم عن اعتقادهم ذلك فيه والإيمان بالله هو أصل المفاخر والمناقب وهذا الاستثناء شبيه بقوله:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ** بهنّ فلول من قراع الكتائب

وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو اليسر هاشم وابن أبي عبلة {وما تنقم} بفتح القاف مضارع نقم بكسرها وهما لغتان والأفصح قراءة الجمهور.
{ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفّنا مسلمين} لما أوعدهم بالقطع والصلب سألوا الله تعالى أن يرزقهم الصبر على ما يحلّ بهم إن حل وليس في هذا السؤال ما يدل على وقوع هذا الموعد بهم خلافًا لمن قال يدلّ على ذلك ولا في قوله وتوفّنا مسلمين دليل على أنه لم يحلَّ بهم الموعود خلافًا لمن قال يدلّ على ذلك لأنهم سألوا الله أن يكون توفيهم من جهته لا بهذا القطع والقتل وتقدّم الكلام على جملة {ربّنا أفرغ علينا صبرًا} سألوا الموت على الإسلام وهو الانقياد إلى دين الله وما أمر به. اهـ.